بناء الدولة المجالية في البلاد التونسية والمغرب الأقصى، وآليات الاندماج فيها خلال الفترة الحديثة

تتطرّق الدراسة إلى مقارنة عملية بناء الدولة المجالية في تونس والمغرب خلال الفترة الحديثة (القرن السابع عشر – القرن التاسع عشر). بيّنت هذه الدراسة في نهاية التحليل أننا إزاء تركيبتين ذواتي مركزة سياسية عالية نسبيًا، لكنها كشفت أيضًا عن وجود نمطين مختلفين لبناء الدولة؛ ففي تونس تقوم المركزة على نخب أعيانية مدينية مندمجة تتركز في العاصمة أساسًا، وهي التي شكّلت قاعدة اجتماعية متينة للنفوذ المركزي. أمّا في المغرب، فهي تُبنى على أساس اتفاق يحصل بين مكوّنات التركيبة حول اختيار السلطان الذي يمثّل رمز الإجماع والضامن لتواصله. وهو يشكّل الثقل المضاد للخصوصيات المحلية التي تجنح بطبعها إلى التفكك والانقسام. وقد استطاع النفوذ المركزي في تونس أن يُضعف الخصوصيات المحلية، ويجفف تدريجيًا منابع النفوذ المضادة له، ويؤسس في الوقت ذاته لولاء جماعي، فضعُف المحلي لصالح المركزي الذي استطاع أن يخترق بمؤسساته الكتلة القبلية، ويربط علاقة مباشرة بالأفراد. بذلك استطاعت الدولة التحوّل بالتدريج من دولة تمارس سيادتها على جمع من الجموع إلى دولة تمارس سيادتها على جمع من الأفراد. عندها وصلت الدولة المجالية في تونس إلى أعلى درجات تكوينها. خلافًا لذلك، لم يعمل المركز في المغرب على إضعاف منابع النفوذ الأخرى، بل اكتفى باعتراف المجموعات المحلية بسيادته عليها، حتى يمكن القول إنه عمل على تنمية هذه الخصوصيات المحلية وإذكائها لأن من شأن ذلك أن يزيد الدعم لدوره كضامن أساس للإجماع وتواصله بالمغرب، وما تواصُل ممارسة البيعة بطقوسها المعهودة إلًا تعبير عن ذلك. لهذا، يمكن القول إن الدولة في المغرب تُعرّف، خلال هذه الفترة، لا بالولاء لمجال ترابي ذي حدود واضحة ومعلمة، وإنما بالولاء  للسلطان. وسيادة الدولة تمارَس تبعًا لذلك على جمع من الجموع؛ إذ لم تتحقق للدولة بعدُ إمكانية اختراق الكتل الجماعوية كي تستطيع النفاذ إلى الأفراد داخلها وتقيم معهم علاقات مباشرة. 

حمّل المادة حمّل العدد كاملا الإشتراك لمدة سنة

ملخص

زيادة حجم الخط

تتطرّق الدراسة إلى مقارنة عملية بناء الدولة المجالية في تونس والمغرب خلال الفترة الحديثة (القرن السابع عشر – القرن التاسع عشر). بيّنت هذه الدراسة في نهاية التحليل أننا إزاء تركيبتين ذواتي مركزة سياسية عالية نسبيًا، لكنها كشفت أيضًا عن وجود نمطين مختلفين لبناء الدولة؛ ففي تونس تقوم المركزة على نخب أعيانية مدينية مندمجة تتركز في العاصمة أساسًا، وهي التي شكّلت قاعدة اجتماعية متينة للنفوذ المركزي. أمّا في المغرب، فهي تُبنى على أساس اتفاق يحصل بين مكوّنات التركيبة حول اختيار السلطان الذي يمثّل رمز الإجماع والضامن لتواصله. وهو يشكّل الثقل المضاد للخصوصيات المحلية التي تجنح بطبعها إلى التفكك والانقسام. وقد استطاع النفوذ المركزي في تونس أن يُضعف الخصوصيات المحلية، ويجفف تدريجيًا منابع النفوذ المضادة له، ويؤسس في الوقت ذاته لولاء جماعي، فضعُف المحلي لصالح المركزي الذي استطاع أن يخترق بمؤسساته الكتلة القبلية، ويربط علاقة مباشرة بالأفراد. بذلك استطاعت الدولة التحوّل بالتدريج من دولة تمارس سيادتها على جمع من الجموع إلى دولة تمارس سيادتها على جمع من الأفراد. عندها وصلت الدولة المجالية في تونس إلى أعلى درجات تكوينها. خلافًا لذلك، لم يعمل المركز في المغرب على إضعاف منابع النفوذ الأخرى، بل اكتفى باعتراف المجموعات المحلية بسيادته عليها، حتى يمكن القول إنه عمل على تنمية هذه الخصوصيات المحلية وإذكائها لأن من شأن ذلك أن يزيد الدعم لدوره كضامن أساس للإجماع وتواصله بالمغرب، وما تواصُل ممارسة البيعة بطقوسها المعهودة إلًا تعبير عن ذلك. لهذا، يمكن القول إن الدولة في المغرب تُعرّف، خلال هذه الفترة، لا بالولاء لمجال ترابي ذي حدود واضحة ومعلمة، وإنما بالولاء  للسلطان. وسيادة الدولة تمارَس تبعًا لذلك على جمع من الجموع؛ إذ لم تتحقق للدولة بعدُ إمكانية اختراق الكتل الجماعوية كي تستطيع النفاذ إلى الأفراد داخلها وتقيم معهم علاقات مباشرة. 

المراجع